عندما ترى الانكسار في عيون أولادك!!

يسري سلال 18 يناير 2019 | 4:44 ص شخصيٌّ 2025 مشاهدة

عندما ترى الانكسار في عيون أولادك!!
بقلم الأستاذ/ يسري سلال

أوَّل أمس، قلتُ لنفسي وأنا مملوء بالأسى والحسرة: يا ليتني مِتُّ قبل هذا، وكنتُ نسيًا منسيًّا، ليت أمِّي لم تلدني!!

وقبل أن أستطرد، وأذكر لكم ما حدث، اقرءوا هذا ….

منذ حوالي 9 سنوات، وبالتَّحديد منذ عرفتُ مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، وعلى الأخصِّ

فيس بوك، لم أتحدَّث يومًا عن أولادي، أو عن حياتي الشَّخصيَّة؛ لأنَّني آليتُ على نفسي،

أن تكون حياتي، ومنها حساباتي على مواقع التَّواصُل، للنَّحو ولا شيء سواه؛ فلم تروني

يومًا نشرتُ خبرًا عن مناسبةٍ عائليَّةٍ، أو ذكرى شخصيَّةٍ، أو معلومة أو صورةٍ لأولادي،

باستثاء أنَني تطرَّقتُ لحياتي الشَّخصيَّة مرَّتَين لا غير:

الأولى: عندما حدَّثتكم عن ابنتي الصُّغرى وقرَّة عيني، نيِّرة، وقت أن كانت مريضةً

ومشرفةً على الموت؛ لتتذكَّروها بدعوةٍ.
والثَّانية: عندما بدأتُ أتحدَّث عن مرضي، وعن قرحتي الملعونة.

وفيما عدا ذلك، لم أتطرَّق يومًا لحياتي الشَّخصيَّة، وخصوصًا أولادي، إلا أنَّني اليوم

سأخالف ما اعتدتُ عليه؛ لأحدِّثكم، ولأوَّل مرَّة، عن أولادي: نور (الصَّفُّ الثَّاني الثَّانويُّ )،

وأحمد (الصَّفُّ الثَّاني الإعداديُّ )، وندى (الصَّفُّ الثَّالث الابتدائيُّ )، ونيِّرة (أقلّ من عامَين

ونصف ).

فلماذا أخالف اليوم ما عهدتموه عنِّي؛ لأخرج، ولأوَّل مرَّةٍ، من سعة ورحابة فضاء النَّحو،

إلى ضيق حياتي الشَّخصيَّة؟

في الحقيقة، فإنَّ ذلك يعود إلى سببَين:
1 – أنَّني لا أريد أن أمضي، وما بقي في الحياة إلا أقلُّ القليل، دون أن أحدِّثكم عن أولادي، الذين كتمت أمرهم طوال هذه السَّنوات.
2 – ما حدث أوَّل أمس؛ ممَّا كسر قلبي، وسأذكره في نهاية مقالي.

وأوَّل ما أذكره لكم، أنَّني وقد أشقاني المرض، وحوَّل حياتي إلى جحيم، أشعر بالامتنان لله (سبحانه وتعالى ) الذي سلبني نعمة الصِّحَّة؛ لأنَّه ادَّخر لي ما هو أعظم من الصِّحَّة بملايين المرَّات، وهم أولادي، الذين أقرَّ الله بهم عيني؛ فملأ الرِّضا قلبي، وكأنَّني ملكتُ الدُّنيا من أطرافها.

مسكين مَن يظنُّ أنَّ فقره ابتلاء، وأنَّ مرضه ابتلاء، مسكين لأنَّه لا يدرك أنَّ الابتلاء الحقيقيَّ لا يمكن أن يكون في الصِّحَّة، أو في المال، وإنَّما لا يمكن أن يكون الابتلاء إلا في الولد، فإن سلَّم الله أولادك، وحفظهم، وأنبتهم نباتًا حسنًا، ففي ذلك أعظم العزاء عن أيِّ نعمةٍ أخرى تعتقد أنَّك تفتقدها.

وبالنِّسبة لي؛ فقد اُبتُلِيتُ في النِّعمتَين: المال، والصِّحَّة، ولكنَّ نصيبي في نعمة الولد كان أكثر من عظيم، ممَّا عوَّضني أبلغ تعويض، وهوَّن في عيني كلا الابتلاءين.

علاقتي بأولادي علاقة نادرة، فلا أدري هل أنا أبوهم، وهم أولادي، أم أنَّني ابنهم ….

أوَّلا: أنا الأب، وهم الأبناء .. مجرَّد لمحات:

1 – أحبُّهم بجنون، وأهون عليَّ أن أموت، وأن أُدفَن حيًّا، ولا يمسُّ أحدهم سوء، مهما قلَّ شأنه.
2 – لم يسبق لي مرَّةً في حياتي أن (زعَّقت ) لأحدهم، فضلا عن أن أضربه والعياذ بالله.
3 – منذ أن اكتحلت عيناي برؤية (نور ) بعد ولادتها، تغيَّرت نظرتي للحياة، ومن شدَّة حبِّي لها، وارتباطي بها، كنتُ مستعدًّا أن أكتفي بها، وألا أفكِّر في الإنجاب مجدَّدًا، وكنتُ أتعجَّب أشدَّ العجب ممَّن ينقمون لإنجابهم البنات، ويتمنُّون الولد، وبفضل (نور ) توقَّفتُ منذ وُلِدت عن عقاب طلابي بدنيًّا، بل أن أتحوَّل إلى واحد من أعدى أعداء العقاب البدنيِّ.
4 – لا أسمح لأيِّ معلِّمٍ، أيًّا كان، ومهما كان السَّبب أن يعاقب أيًّا منهم بأيِّ نوعٍ من أنواع العقاب، وخصوصًا العقاب البدنيّ، وأن يفشلوا في دراستهم، بل وأن يهجروا المدارس كلِّيَّةً، أهون عندي من أن يمدَّ أيُّ مخلوقٍ يده عليهم.
5 – منذ أن أنجبتهم، لا أفكِّر في نفسي على الإطلاق؛ فالملابس لهم، وأشهى الطَّعام لهم (وأردأه لي )، وأحلى الفاكهة لهم (لأنَّني إذا استحسنتُ طعم حبَّة فاكهةٍ، حرَّمتها على نفسي، وآثرتهم بها )، والذِّهاب للأطبَّاء لهم، إذا مرضوا لا قدَّر الله (أمَّا أنا فقد حرَّمتُ الأطبَّاء على نفسي أيضًا ) [ولا أحدِّثكم عمَّا يدور من معارك؛ لأنَّهم يأبون إلا أن يؤثروني أنا بكلِّ ذلك، فأرفض بإصرار ].
6 – غيَّرتُ موعد نومي لأجلهم؛ فآخذ الحقنة المسكِّنة ظهرًا، وأخلد إلى النَّوم لحوالي 4 ساعات، هي كلُّ ما تمنحني إيَّاه الحقنة المسكِّنة، فقط لأعفيهم من سماع صرخاتي التي أفسدت حياتهم؛ فإنَّني أصرخ من الألم صباحًا كما أشاء؛ حيث يكونون في مدارسهم، ويعودون فيجدونني نائمًا، وهكذا تكون المشكلة فقط في السَّاعات من المغرب وحتَّى يأتي موعد نومهم، وخلال هذه الفترة

أكتم الصُّراخ (ما استطعت )، وأتماسك، وأدَّعي الرَّاحة، وأتظاهر بأنَّني أحسن؛ فإذا ناموا

أصرخ حتَّى الصَّباح، وخلال هذه الفترة أحاول أن أتشاغل بالعمل في الموقع.

وتأتي المشكلة الكبرى، والتي تؤرِّق حياتي، في كون (نور ) تفضِّل السَّهر للمذاكرة حتَّى وقتٍ متأخِّرٍ، وهو ما يعذِّبني ويحمِّلني من الألم فوق ما يطيق البشر؛ لأنَّني أحرص على كتمان

صراخي حتَّى لا تتألَّم لأجلي، وكلَّ ليلةٍ أرجوها أن تنام، دون أن أصارحها مرَّةً واحدةً،

أنَّني أريدها أن تنام لأتألَّم بحرِّيَّة، ولأصرخ من القلب.
7 – وبخصوص القرحة، فطوال سبع سنوات، هي عمر القرحة، لم يسبق لي ولا لمرَّة

واحدة أن قمتُ بالتَّغيير على القرحة أمامهم؛ حفاظًا على مشاعرهم، وعلى قلبهم الغضَّة الصَّغيرة.

ثانيًا: هم الآباء، وأنا الابن .. مجرَّد لمحات:

1 – أشتري لهم الفاكهة أو الحلوى، فأُفاجَأ بأنَّهم لم يقربوها، واتَّفقوا معًا على أن يؤثروني

بها، ولا أعرف بذلك إلا في اليوم التَّالي.
2 – لم أرَ أطفال في حياتي يكرهون أن يشتري لهم والدهم ملابس، أو لحمًا، أو حلوى،

أو فاكهة، إلا أولادي؛ لأنَّهم يريدونني أن أدَّخر المال للذِّهاب لطبيب، أو لشراء علاج.
3 – إذا استيقظتُ من نومي، وناديتُ على أيِّهم، تسابقوا جميعًا إلى الغرفة التي أنام فيها،

كلٌّ منهم يسابق أخاه ليضع (الشِّبشب ) في قدمي؛ لأنَّني لا أستطيع القيام بذلك بنفسي!!
4 – أنام أحيانًا كثيرةً على كرسي؛ لأنَّني لا أستطيع الاستلقاء على السَّرير بعد زوال أثر الحقنة المسكِّنة؛ من شدَّة الألم، فيتسابقون طوال اللَّيل على لفِّي بالبطَّانيَّات لفًّا؛ ليحموني من البرد، وكان الأحرى أن أفعل ذلك أنا لهم.
5 – حتَّى نيِّرة الصَّغيرة، أحملها على قدمي، وتخونني قوَّتي أحيانًا؛ فأتأوَّه من الألم؛ فتميل

عليَّ، وتطبع قبلةً على خدِّي، وهي تقول بحروفٍ مكسَّرةٍ: معليش (لا أتبيَّن من الكلمة إلا حرف الشِّين!! ).

هؤلاء هم أولادي، وقرَّة عيني، وعيون قلبي؛ فأنَّى لمثلي أن يأسى أو يحزن أو يجزع!!

أمَّا ما حدث وجعلني أتمنَّى لنفسي الموت، بل وأتمنَّى أنَّني لم أُولَد من الأساس، فهو ما يلي:
كنتُ عائدًا من عند الطَّبيب، ولأنَّني أسكن في الدَّور الثَّالث؛ فإنَّ أولادي، وبمجرَّد أن يسمعوا

صوت (التوكتوك ) في الشَّارع، يسرعون بالنُّزول إليَّ؛ لأتسنَّد عليهم، ولكنَّني هذه المرَّة

أشفقتُ عليهم، وقرَّرتُ أن أتسنَّد على الحائط، وأحمد وندى يصعدون ورائي. ولأنَّ حركتي

كانت بطيئةً للغاية، فقد التفتُّ إليهم لأطلب منهم الصُّعود أمامي، وبينما ألتفتُ خلفي،

لمحتُهما يتبادلان نظرةً ملؤها الأسى والشَّجن والحزن على أبيهم الذي يعجز عن صعود

السُّلَّم، ساعتها أدمت تلك النَّظرة المنكسرة قلبي؛ فتمنَّيتُ لنفسي الموت.

الحمد لله على كلِّ حالٍ.