معضلات نحويَّة مؤرِّقة في جملة (جاءت بنتٌ ضاحكة )!!

يسري سلال 17 ديسمبر 2018 | 7:42 م قضايا نحويَّة 4116 مشاهدة

معضلات نحويَّة مؤرِّقة في جملة (جاءت بنتٌ ضاحكة )!!
بقلم الأستاذ/ يسري سلال
برعاية موقع نحو دوت كوم – ومبادرة نَحْوَ نَحْوٍ جَدِيدٍ

نشر أحد الأخوة أمس في مجموعة (الإبداع ) الغرَّاء منشورًا يسأل فيه عن إعراب كلمة

ككلمة (ضاحكة ) .. في جملةٍ شبيهةٍ بهذه الجملة .. وجاءت أغلب التَعليقات مستنكرةً أن

يتمَّ توجيه سؤالٍ بكلِّ هذه البساطة لناس يُفترَض أنَّهم معلِّمون .. وأجمعت التَّعليقات بالطَّبع

على أنَّ إعرابها نعتًا .. وأنَّ هذا أوضح من أن يكون واضحًا.

واندهشت غاية الاندهاش .. ليس من إعرابها نعتًا .. فأنا في الحقيقة أوافقهم الرَّأي ..

وهي في رأيي .. ورغم كلِّ ما سأورده بعد قليلٍ .. نعت .. ولكنَ سبب دهشتي أنَّ الجملة –

في الحقيقة – ليست بكلِّ البساطة والسُّهولة التي افترضوها .. وإنَّما هي – في رأيي –

تعبِّر عن معضلةٍ نحويَّةٍ .. تجرُّ عدَّة معضلاتٍ أخرى!!

المعضلة المؤرِّقة الأولى: هل صاحب الحال لا بدَّ أن يكون نكرة؟ وفي أحسن الأحوال: هل مجيئه نكرةً مقيَّدٌ بشروط؟

في الحقيقة .. وبعد ما ذكرناه هنا عن جملة (جاء ولدٌ وهو يضحك ) من كون (وهو يضحك )

حالا جملة اسميَّة .. رغم تنكير الاسم قبلها .. وما أورده أحد الأخوة عن آية “أو كالذي مرَّ

على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها ” .. والتي جاء صاحب الحال فيها نكرةً أيضًا .. أقول:

بعد هذين المثالَين .. ثبت .. وبالدَّليل أنَّ صاحب الحال (قد ) يأتي نكرةً .. ورغم أنَّ الأخوة

ذكروا أنَّ ذلك مقيَّد بشروط .. وليس مطلقًا .. فإنَّني هنا سأثبت أنَّ مجيء الحال من النَّكرة

ليس مقيدًا بشرط .. وإنَّما قد يحدث في حالاتٍ أخرى.

في الجملة التي بين أيدينا ما الذي يمنع عدَّ (ضاحكة ) حالا؟ وإذا كنتُ أنا شخصيًّا أرى

أنَّه يمكن عدّها حالا .. بتقدير: جاءت بنتٌ حال كونها ضاحكةً .. فما الفرق – إذن – بين

قولي: جاءت البنت ضاحكةً .. وقولي: جاءت بنتٌ ضاحكةً (بالفتح )؟؟ الفرق أنَّك في الجملة

الأولى تخاطب شخصًا يعرف أيَّ بنتٍ تقصد .. بينما في الجملة الثَّانية أنت تقصد بنتًا لا

يعرفها المخاطب .. والمعنى في الأولى: جاءت البنت (التي تعرفها ) حال كونها باكيةً ..

وفي الثَّانية: جاءت بنتٌ (لا تعرفها تحديدًا ) حال كونها باكيةً!!

إذن .. هل معنى ذلك أنَّ الأمر منوطٌ وفقط بنيَّة المتحدِّث وفهم المخاطَب؟ لا .. فالأمر قد يكون

منوطًا بالإعراب أيضًا .. وهذا سرُّ مجيئي بالفاعل مؤنَّثًا .. على خلاف الجملة التي أوردها

صديقنا في (الإبداع ) .. فلو افترضنا أنَّ الفاعل مذكَّر: جاء ولدٌ …. فلو أردت النَّعت فستقول

: باكٍ .. ولو أردت الحال فستقول: باكيًا.

فهل تنطبق تلك الحالة – إن صحَّت وجهة نظري والتَّقدير الذي ذكرته – على الحالات التي

أوردها الأخوة لجواز مجيء صاحب الحال من النَّكرة؟؟

كذلك – وللتَّوضيح أكثر – فلو قلتَ لصديقك: سمعتُ الأسد زائرًا .. فـ (زائرًا ) حال .. والمستمع

هنا يعرف عن أيِّ أسدٍ تحدِّثه .. بينما إذا قلت: سمعت أسدًا زائرًا .. فإنَّ هذا يحتمل

الإعرابَين: النَّعت – والحال .. والتَّقدير يكون كالتَّالي:
أوَّلا: الحال: سمعتُ أسدًا (لا تعرفه تحديدًا ) حال كونه زائرًا.
ثانيًا: النَّعت: سمعتُ أسدًا (لا تعرفه تحديدًا أيضًا ) صفته أنَه يزأر.

ولعلَّك تقول: وما الفرق بين التَّقدير الأوَّل والثَّاني إذن؟؟

الفرق بين هذه وتلك .. هو نفس الفرق بين (سمعت الأسد زائرًا ) والتي تعني – بالعامِّيَّة -: أنا سمعت الأسد (اللي بالي بالك!! ) لمَّا كان بيزأر .. وجملة (جاء الأسد الزَّائر ) التي تعني – بالعامِّيَّة أيضًا – أنا سمعت الأسد اللي بيزأر تحديدًا .. [في الجملة الأولى حدَّدت الحالة التي رأيت فيها ذلك الأسد المحدَّد – وفي الجملة الثَّانية ميَّزت الأسد المعنيَّ من بين بقيَّة الأسود المعنيِّين أيضًا بوصفه الزَّائر الوحيد بينها ] ولا فرق بين هذين المثالَين والمثالَين اللَّذَين أوردتهما (بتنكير كلمة أسد ) إلا أنَّ الأسد المقصود معلوم ومحدَّد للمخاطب في هاتَين الجملتَين .. بينما هو غير معلومٍ أو محدَّدٍ في الجملتَين التَين ذكرتهما (بالتَّنكير ).

أعرف أنَّ الأمر معقَّد .. وأتمنَّى أن تصل وجهة نظري – على تعقيدها – إليكم.

وتتبقَي نقطة مهمَّة .. ربَّما تاهت منكم الآن وسط هذه (الدَّهاليز ) و (التَّلافيف ) وهي: لماذا عددتُ الكلمة في بداية مقالي نعتًا إذن؟؟

والحقيقة أنَّ المبرِّر الوحيد الذي يدعوني إلى الميل لكونها نعتًأ أكثر من ميلي لكونها حالا .. رغم كلِّ هذا التَّنظير – هو التَّناقض الذي سيحدث إذا وضعنا جملة (جاءت بنت ضاحكة ) في مواجهة جملة (جاءت البنت ضاحكة ) فإذا كنَّا سنعرب الأولى حالا – تبعًا لنظريَّتي السَّابقة – فماذا سنعرب الثَّانية؟؟

هذا هو المبرِّر الوحيد – في رأيي – لكون تلك الكلمة نعتًا وليست حالا .. رغم كلِّ ما ذكرته .. ورغم اقتناعي الكامل أنَّه لا يوجد أيُّ مانعٍ موضوعيٍّ يمنع عدَّها حالا .. ولا حتَّى كون الاسم قبلها نكرة.

المعضلة الثَّانية: هل يُشترَط أن يطابق النَّعت المنعوت في التَّعريف والتَّنكير؟

في الجملتَين: جاءت هند باكية – جاءت هند الباكية .. سيسارع الجميع إلى القول إنَّ (باكية ) حال و (الباكية ) نعت .. وفي الواقع .. ورغم أنَّني أوافقهم الرَّأي فيما يخصُّ (الباكية ) [النَّعت ] فإنَّني أخالفهم الرَّأي فيما يتعلَّق بـ (باكية ) [الحال ] والتي أرى أنَّها تصحُّ نعتًا أيضًا!! فكيف ذلك؟

طبعًا كلمة (هند ) معرَّفة .. ولا شكَّ في ذلك .. ولكن سيتعلَّق الأمر بالمعنى هنا .. فلو افترضنا مثلا وجود ثلاث فتياتٍ اسمهم هند .. وأنا أقصد واحدةً منهنَّ .. فإنَّه يصحُّ في رأيي (وصف ) إحداهنَّ بالنَّكرة .. وسيقول قائلٌ بالتَّأكيد: وما الفرق في المعنى إذن بين:
1 – جاءت هندٌ باكيةً (بالنَّصب ).
2 – جاءت هندٌ الباكية.
3 – جاءت هندٌ باكيةٌ (بالرَّفع ).

والإجابة هنا أنَّ الجملة الأولى .. ولا لبس فيها .. تعني – بالعامِّيَّة -: هند اللي تعرفها جاءت وهي بتبكي .. والجملة الثَّانية تعني: هند اللي بتبكي دايمًا جاءت .. والثَّالثة تعني: واحدة من البنات اللي اسمهم هند جاءت .. وتحديدًا هند اللي بتبكي!!!!

المعضلة الثَّالثة: هل الحال صفة متنقِّلة .. والنَّعت صفة ثابتة؟؟

عندما تواجهني قواعد من عيِّنة (الجمل بعد النَّكرات صفات .. وبعد المعارف أحوال ) و (المعرَّف بأل بعد اسم الإشارة يُعرَب بدلا ) وغير ذلك من القواعد التي وضعها المعلِّمون والمحدثون بوصفها تيسِّر النَّحو على المتعلِّمين (في حين أنَّها تمسخ النَّحو .. وتطعنه في ظهره ) .. أقول عندما تواجهني مثل هذه القواعد .. لا أندهش .. فهذا قَدَرنا وقَدَر النَّحو .. أمَّا عندما تصادفني قاعدة صاغها نحاتنا الأوائل بوصفها حكمًا ثابتًا أو مطلقًا .. في حين أنَّها نسبيَّة أيضًا .. فإنَّ دهشتي من الطَّبيعيِّ أن تتضاعف.

ومن تلك القواعد قاعدة أنَّ (الحال صفة متنقِّلة .. والنَّعت صفة ثابتة ) فهل هذا مطلق؟؟
في قولنا: (حارب الجنديُّ رجلا ) نخالف أصلَين: الأوَّل أنَّ الحال مشتقَّة .. والثَّاني أنَّ الحال صفة متنقِّلة (غير ثابتة ) فكلمة (رجلا ) جامدة بالطَّبع .. والرُّجولة طبعًا صفة ثابتةٌ في المرء.

والحقيقة أنَّ هذه القاعدة نسبيَّة وغير مطلقةٍ بأيِّ حالٍ من الأحوال .. وأغلب الكلمات يصحُّ وقوعها نعتًا وحالا .. وما سيفصل بين الاثنَين غالبًا كون صاحبها نكرةً أو معرفةً: وقف الجنديُّ رافعًا رأسه (حال ) – وقف الجنديٌّ رافعُ الرَّأس (بالرَّفع: نعت ) – وقف الجنديُّ رافع (بدون تشكيلٍ ) الرَّأس (تصحُّ نعتًا .. وتصحُّ حالا .. سواءً بسواء ).

ولو قلت: قابلتُ رجلا كفيفًا .. فرغم وقوع (كفيفًا ) نعتًا .. فإنَّه من الوارد أنَّ كفَّ النَّظر أمرٌ طارئٌ عليه .. وليس ثابتًا أصيلا فيهلا
ربَّما كان العيب فينا أحيانًا .. ويكون النُّحاة قد حدَّدوا حالاتٍ تشذُّ فيها القاعدة .. ونحن لا نعلم .. من باب الجهل أو الـَّقصير .. فلا أتَّهم أحدًا .. ولكنَّ إطلاق القواعد على أنَّها مسلَّمات .. ثمَّ اكتشاف أنَّ هذا غير صحيحٍ .. وغير مطلقٍ .. أمرٌ مزعجٌ ومسيء.

يؤسفني أن أحيِّركم .. ويؤسفني أكثر منكم أن تواجهني هذه المعضلات .. حيث أتمنَّى ألا تكون أغلب قواعد النَّحو نسبيَّةً بهذه الصُّورة .. ولكنَّ هذا خارج عن إرادتنا جميعًا.